قضية فلسطين قضية الجميع

توبة.. وابتهال
27 مايو, 2021
أنتم أكبر من أن تخط لكم ثغور يا أهل فلسطين
8 يونيو, 2021

قضية فلسطين قضية الجميع

تدفقت الجويش الصليبية من أوربا، واكتسحت فلسطين بما فيها من إمارات ومقدسات، وكانت كالجراد المنتشر، ولم يقف في طريقها ملك ولاجيش، وعجزت الحكومات الإسلامية عن مقاومتها، فاستولت على البلاد والعباد، وهددت هذه الأمة العظيمة وحضارتها.

وكان الخَطب جسيماً، ووقف العالم الإسلامي على مقترق الطرق، فلو جرت الأمور في مجاريها لكان فريسة الاحتلال والاستعمار في القرن السادس، كما كان في القرن التاسع عشر، وكان الأمر أعظم من أن يقوم له ملوكٌ وقوادٌ يكون الدفاع عن القدس واستقلال العالم الإسلامي بعض همومهم، أو من هوامش حياتهم، إنما كان ينبغي له رجل يكون الأمر كل همه، كان ذلك الرجلُ هو السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي اختاره الله لهذه المهمة، وهيأ هو نفسه لها، فقد حكى عنه صابحه (القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد) المتوفى سنة 632هـ:

“إنه تاب عن المحرمات، وترك الملذات، ورأى أن الله سبحانه وتعالى خلقه لأمر لا يتفق معه اللهو والترف”.

قام صلاح الدين للدفاع عن فلسطين، ورد الغارة الصليبية، وركز فكره عليه، وتفرّغ له، واستولت عليه هذه الفكرة استيلاء تاماً، حتى لم تدع لغيرها موضعاً.

وإليكم ما قاله ابن شداد في سيرته:”ولقد كان حبّه للجهاد والشغف به قد استولى علي قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولانظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه.

ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده، ووطنه وسكنه، وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمته، تهب فيها الرياح ميمنة وميسرة، وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه ـ أي إلى السلطان ـ يحثه على الجهاد”.

وقد حمل السلطان همّ القدس، فأخذ منه كل مأخذ، وحل في قرارة نفسه، قال ابن شداد:

“وكان رحمه الله عنده من القدس أمرٌ عظيمٌ، لا تحمله الجبال”.

ومهما حاولت ـ أيها السادة ـ أن أصف هذا الهمّ الذي استولى على صلاح الدين، وأصور ما كان فيه من قلق وانزعاج دائم، وشدة اهتمام باسترداد البلاد وتحرير القدس، وردّ الأوربيين على أعقابهم، لا أستطيع أن أزيد علىوصف ابن شداد له بالوالدة الثكلي، ولاأستطيع أن آتي بتعبير أبلغ وأدق من هذا، يقول رحمه الله في وقعة عكا:

“وهو السلطان كالوالدة الثكلى، يجول على فرسه من طلب إلى طلب، ويحثّ الناس على الجهاد، ويطوف بين الأطلاب بنفسه، وينادي: ياللإسلام وعيناه تذرفان الدموع، وكلّما نظر إلى عكا وما حلّ بها من البلاء، وما يجري على ساكنيها من المصاب العظيم، اشتد في الزحف والحث على القتال، ولم يطعم في ذلك اليوم طعاماً البتة، وإنما شرب أقداح مشروب كان يشير بها الطبيب”.

ويقول في فتح الطريق إلى عكا:

“والسلطان يوالي هذه الأمور بنفسه، ويكافحها بذاته، لا يتخلف عن مقام من هذه المقامات، وهو من شدة حرصه، ووفور همته، كالوالدة الثكلى.

ولقد أخبرني بعض أطبائه:أنه بقي من يوم الجمعة إلى الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه”.

وقال في ذكر الواقعة العادلية:

“لقد رأيته ـ رحمه الله ـ قد ركب من خيمته وحوله نفرٌ يسير من خواصه، والناس لم يتم ركوبهم، وهو كالفاقدة ولدها، الثاكلة واحدها”.

بهذا الهم الشاغل، والنفس القلقة، والقلب المنزعج استطاع صلاح الدين أن يكمل مهمته، ويكتسب الفتح المبين في معركة حطين، وما كان اجتماع الجيوش عنده والتفاف الأمراء، إلا صدى لقلبه الخفاق، وإيمانه الفياض، وصدره الجياش، وروحه الملتهبة، لا ترون انتصاراً باهراً في التاريخ، ومعركة حاسمة إلا ومن ورائها قلب يخفق، وعرق ينبض، وليث يثور، وشجاع يغضب.

إن موضع الضعف في جهادنا أننا لا نجد في الشعوب العربية والحكومات والأفراد من يتبنى هذه القضية، ويتجرد لها تجرد رجل مرض وحيده، أو قامت عليه قضية، فإذا تهاون في الدفاع عوقب عقاباً شديداً، وعلامة ذلك ـ أيها السادة ـ وجود هذه الحزازات والنزاعات والمنافسات بين الحكومات والأحزاب والأفراد، ومعركة فلطسين قائمة، والعدو بالمرصاد.

فهل سمعتم بأسرة يمرض عزيزها أو عميدها، ويشتد به المرض، ويتعرّض للموت، ورجال هذه الأسرة من إخوة وأعمام وأخوال يتنازعون في العمادة أو السيادة، ويتشاغلون بذلك عن علاجه وتمريضه؟.. إن دلت هذه الظاهرة على شيء فإنها تدل على عدم تعلق قلوبهم بالمريض، أو موت الإنسانية فيهم.

إن مسئولية فلسطين قد قسمت على شعوب كثيرة، ولكن لا يرى شعب أنه أولى بهذه القضية من غيره، مع أنها قضية الجميع، وكل بلد عربي في خطر إذا قصّر فيها أو تهاون، ثم إن الديموقراطية قسمت المسوئلية على الشعب كله، ولكن لم يضطلع بها أحد، فهي ضائعة بين أفراد الشعب والرؤساء، لا يرى أحد نفسه مسؤولاً عنها، ولا يراها قضيته الشخصية.

ولكن مهما كان، فلا داعي إلى اليأس، ولا مجال للتشاؤم، فالمنبع الذي تُنبع منه الدوافع النفسية والبواعث الداخلية ـ وهو الإيمان ـ لم ينضب في صدر الأمة، ويمكن إثارته في كل وقت، وإن العاطفة التي تبعث على المغامرات لا تزال قوية تنتظر الانطلاق، وإن الأمة لم تصب بالعُقم، وقد أنجبت في كل محنة وأزمة أفراداً واجهوا المشكلة، وجاؤوا بالعجب العجاب، وعسى أن تكون فلسطين سببَ بعثٍ جديد لهذه الأمة، ويقظةٍ عامة للشرق العربي.

وأنا أختم حديثي هذا ـ أيها السادة ـ بترجمة أبيات لشاعرنا العظيم الدكتور محمد إقبال الذي يقول:

“”إذا رأيت النجوم شاحبة متكدّرة تخفق، فاعلم أن الفجر قريب.

ها هي ذي الشمش قد ذرّ قرنُها من الأفق، وولّى الليلُ على أدبارهِ.

إن عاصفة الغرب قد أعادت المسلمَ إلى الإسلام.

فإنما تكون اللآليءُ في البحر المتلاطم الهائج.

لقد دبّ دبيبُ الحياةِ في الشرق، وجرى الدمُ االفائر في عروقهِ الميتة، وذلك سرٌّ لا يفهمه ابن سينا والفارابي.

إن إقبال ليس يائساً من تربته الحقيرة، فإنها إذا سُقيت أتت بمحصول كبير”.

(العلامة الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي)

×