شعائر الله تعالى وتعظيمها (2)

عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي (7)
3 فبراير, 2021
لغة الحضارة (1)
3 فبراير, 2021

شعائر الله تعالى وتعظيمها (2)

عظمة القرآن المجيد:

كتب العلامة الشيخ أشرف على التهانوي-رحمه الله تعالى- وهو يبيّن عظمة القرآن المجيد وما له من قبول وذيوع:.

“كفى القرآن المجيد عظمة ومجداً ورفعة وفضلاً، أنه كلام الله رب العالمين، وخالق اللوح والقلم، ومقدَّس ومنزَّه من جميع النقائص والعيوب، لقد اعترف العرب جميعاً ببلاغته وفصاحته، ولم يستطع كبار الفصحاء والبلغاء المخصوصين في العربية بالرتب العلية أن يأتوا بمثله ولو آية أو آيتين، وقد تحدى القرآن العرب وأعلن بذلك إعلانًا صارخًا، وقال مدويًا مجلجلاً: إذا كنتم في شك وارتياب من صدق القرآن الكريم، وكونه كلاماً إلهياً، وعددتموه من كلام البشر، فأتوا بسورة واحدة مثل أقصر سور القرآن، وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم في الإتيان بذلك، فلن تأتوا بمثله “وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ،فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ”(البقرة:23-24)، وإذا سمع الجن هذا الكلام الباهر المعجز في بيانه وتشريعه ونظمه، فقالوا مرتجلين: ” إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ” [الجن:1-2].

ولقد أثنى الله بنفسه على هذا الكلام المقدس، فليس بوسعنا أن نوفي حق فضيلة من فضائله ومحاسنه وخصائصه، في الثناء والإشادة، ولو كان بعضنا لبعض ظهيراً.

وأما الأجر والمثوبة على تلاوته وتعلُّمه وتعليمه، فإنه ليس بحاجة إلى بيانها، وقد أجمع جميع علماء الأمة على ما يحصل على تلاوة القرآن الكريم من أعظم أجر، لا يعادله أجر أي ذكر آخر، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، نذكر منها ما يلي كمثال:.

عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : “قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ شَغَلَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْ مَسْأَلَتِي وَذِكْرِي، أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِ السَّائِلِينَ . وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ، كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ”. (الدارمي، كتاب فضائل القرآن، باب فضل كلام الله على سائر الكلام:3419).

و عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْقُرْآنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ”. (الدارمي، كتاب فضائل القرآن، باب القرآن كلام الله :3416).

و  عن مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَوْ جُعِلَ الْقُرْآنُ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ”.( الدارمي، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن،3373) والمراد من الإهاب: قلب المؤمن، فإن كان معمورا بالقرآن الكريم، فإنه يكون محفوظا من عذاب جهنم، لأن الله لن يعذب قلبًا وعى القرآن.

و عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ §إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَهُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَتَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَخُذُوا بِهِ “، فَحَثَّ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلَ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»(الدارمي، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن :3379). [بيان القرآن للشيخ أشرف علي التهانوي]

قوة الكلام الإلهي:

صلة العبد بالقرآن الكريم نعمة، والاستفادة من هذه النعمة سعادة؛ لأن القرآن كلام الله، ولكونه كلام الله مباشرة، يحمل قوة عظيمة، وتأثيراً لا غاية له، وعجائب لا تنقضي، وغرائب لا تنفد، ولا تسأل عن قوة تأثيره  فلو ظهرت في هذا العالم بأثرها الصحيح الحقيقي لعجز العالم عن حمله، وقد أشار القرآن إلى ذلك فيقول: ” لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ” [الحشر:21].

وقد ورد في القرآن الكريم أن موسى عليه السلام لما طلب من الله سبحانه وتعالى أن يريه ذاته المقدسة،قال ربُّه لن تراني،: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ” [الأعراف:143].

ويمكن تقدير تجلِّي الكلام الإلهي وقوته الخارقة من خلال الوقائع الواردة في الأحاديث النبوية التي تنبئ أنه عندما ينزل عليه -صلى الله عليه وسلم- الوحي، يتصبب عرقاً، ويشعر بالثقل عليه مع أن الله تعالى جعله كاملاً من جميع الاعتبارات: يقول زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أنزل الله على رسوله –صلى الله عليه وسلم-وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي” [صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب ما يذكر في الفخذ: 12].

وتقول عائشة رضي الله عنها وهي تذكر كيفية نزول الوحي في البرد الشديد:”لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً”.[صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي باب….. 2].

ويروي: إن كان ليوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فتضرب على جرانها من ثقل ما يوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان جبينه ليطف بالعرق في اليوم الشاتي”. [ دلائل النبوة للبيهقي، أبواب غزوة تبوك، كيفية نزول الوحي: 8/99].

فيتبين من الروايات المذكورة أعلاه أنه لم يكن من السهل لعامة الناس أن يحملوا الكلام الإلهي مباشرة، ولذلك وصل إليهم تدريجيًا بعد ما مرَّ بمراحل مختلفة.

مثل الكلام الإلهي:

أنزل الله تعالى كلامه ليستفيد منه الإنسان، فجعله كلاماً تحمله الأرض ويبقى عليها، مثله كمثل تيار كهربائي، يجري في الأسلاك الكهربائية المغطاة بالمطاط أو البلاستيك، فإن أخذ أحد هذا السلك الكهربائي أو استفاد منه، فيحصل له النور والهواء والبرد والحر، وتدار به الماكينات والأجهزة الكبرى، وبالعكس إذا مسَّه أحد أو أخذ تياراً مكشوفاً بدون المطاط يأخذه تيَّار يعرِّض حياته للخطر والهلاك،ولكن إذا مسَّ الإنسان هذا التيار الكهربائي بالواسطة فإنه يستطيع احتماله، ويستفيد منه، إلا أنه لا يمكن مسُّه مباشرة ولا تحريكه، ولا يمكن وضع اليد عليه بدون الواسطة.

فنفس المثل هو مثل القرآن الكريم، ألبس الله تعالى كلامه غلافاً روحانياً في صورة الألفاظ العربية، بحيث تسمعه آذاننا،وتنطلق به ألسنتنا، وتتفوه به أفواهنا، ونكتبه على الورق، ونحمله بأيدينا،ولولم يكن هذا الكلام الإلهي في غلافه الروحاني أو عرفنا من عظمة ورفعة الكلام الإلهي المسطور في الألفاظ العربية لما استطعنا حمله، ولا استطاعت الأرض أن تحمل نزوله عليها،ولا هذه الدنيا، بل تنشق الأرض شقًّا وتندك دكاً، لأننا لا نقدر على الوصول إلى هذه الرفعة من ناحية الروحانية التي لابد منها للوصول إلى استكناه حقيقة الكلام الإلهي.

فكأنه من فضل الله علينا أن أكرمنا بما لا نستطيع حمله، وأنزل من السماء ما لا يمكن أن يبقى على الأرض، لنستفيد منه، ففي الواقع قد أعطانا الله تعالى نعمة عظمى لا يمكن أن تحصل لنا في أغلب الأحوال، فيجب علينا أن نقدرها حق قدرها، ومهما يكن تقدير الإنسان لهذه النعمة العظمى، فهو قليل بالنسبة إلى عظم مكانتها وجلالة شأنها.

الفرق بين السماء والأرض:

القرآن الكريم كتاب سماوي، وهذه الأرض لا تعادل السماء، والأرض أرض، والسماء سماء، ولذلك لا تستطيع الأرض أن تحتمل السماء، ولا قيمة للأرض أمام قوة السماء ووزنها، حتى أن قوة الأرض ووزنها هما أقل بالنسبة إلى أجرام الكون الأخرى، مع أن كلا منها يسبح في فلكه، ويسير في نطاقه قائماً بوظيفته، فمثلاً الشمس لا قيمة للأرض ولا وزن أمام قوة الشمس وثقلها، لأن الشمس تبعد من الأرض بعداً للغاية، ورغم ذلك تحرق الشمس الأرض إحراقاً وتحميها إحماءاً، وتدور حولها الأرض لا تستطيع أن تهرب منها، فمن هذه الناحية لا قيمة للأرض ولا وزن ولا حقيقة.

فمن ثمة يجب أن نتأمل ونتفكر في أن الكلام الإلهي الذي هو بمثابة “التجلى” أو “النور” كيف ينزل على الأرض؟ ففي الحقيقة أن الله تعالى قد منَّ على الإنسان بأن أنزل كلامة على الأرض لهداية الإنسان، ووفر وهيأ له ما يعيش به ويبقى على الأرض، ويقرأه الناس، وإلا فإن نزل هذا الكلام الإلهي في قوته الحقيقية أي في كيفيته الأصلية فلم يستطع الإنسان أن ينطلق به لسانه ولا يسمعه بأذنه، ولا تحتمله أذن الإنسان، بل يؤثر عليه تجلّيه، فيقول الله تعالى:

” لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ” [الحشر:21]، ولكن أنزله لهداية الإنسان،يقول عز وجل: ” شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ” [البقرة:185].

غرض نزول القرآن:

أنزل القرآن المجيد منجماً، في مراحل مختلفة، فأولاً أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ومن السماء الدنيا نزل إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام في فترات متقطعة.

وما أنزل القرآن المجيد لهذه الوسائط إلا لفائدتنا لنستهدى بهدية ونعتبر بما فيه من عبر وعظات، نبني حياتنا على أسس مستقيمة مستوحاة من الكلام إلهي، ونصلح حياتنا في ضوئه، ونصبغ حياتنا بصبغته، يقول الله تعالى:

” وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ” [النحل:44].

حكمة نزول القرآن:

أنزل الله سبحانه وتعالى كلامه بعد بعثة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر حكمته وهو أن يتعظ الناس بمواعظه ويستنيروا بنوره، ويستهدوا بهدايته، ويتفكروا فيه، ويعلموا ما هي مسئوليتهم، وكيف يعيشون في هذه الدنيا، وفي الوافع القرآن الكريم كتاب فيه ذكر الناس جميعاً، أي بين الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أحوال الناس المختلفة وأنواعهم وألوانهم المتنوعة، من السعيد والشقي، والمؤمن المخلص، والمنافق المرائي، والصبار والشكور، والعجول والكفور،وحسن الأخلاق، وسيئ الأخلاق،والظلوم والكفار، وما إلى ذلك، فيجد كل منهم فيه ذكره ذكراً مفصلاً فقال: ” لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ” [الأنبياء:10].

فعلى كل شخص أن يستعرض حياته ويحاسب نفسه في ضوء تعاليم القرآن، ويتفكر ويتدبر فيمن خلقه، وأنعم عليه نعماً كثيرة سابغة، لا يستطيع أن ينالها بنفسه، ولم يكن مقتدراً عليها.

 

(فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي)

×